فصل: تفسير الآيات (76- 77):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (76- 77):

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)}
وقوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً والله هُوَ السميع العليم...} الآية: الضَّرُّ بفتح الضاد: المصدَرُ، وبضمها الاِسم، وهو عدَمُ الخَيْرِ، و{السميع}؛ لأقوالهم {والعليم} بنيَّاتهم، والغُلُوُّ: تجاوُزُ الحدِّ؛ من غَلاَ السَّهْمُ؛ إذا تجاوَزَ الغَرَضَ المقصُودَ، وتلك المسافَةُ هي غَلْوَتُهُ، وهذه المخاطَبَةُ هي للنصارَى الذي غَلَوْا في عيسى، والقوم الذين نُهِيَ النصارى عن اتباع أهوائهم هو بَنُو إسرائيل، ووَصَف تعالى اليهودَ؛ بأنهم ضَلُّوا قديماً، وأضلوا كثيراً من أتباعهم، ثم أكَّد الأمر بتَكْرار قوله تعالى: {كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السبيل}.

.تفسير الآيات (78- 81):

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}
وقوله تعالى: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بَنِي إسراءيل...} الآية: قال ابنُ عباس رضي اللَّه عنه: لُعِنُوا بكلِّ لسانٍ؛ لُعِنُوا في التوراةِ، وفي الزَّبُورِ، والإنجيلِ، والفُرْقَانِ.
وقوله سبحانه: {كَانُواْ لاَ يتناهون عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ...} الآية: ذَمَّ اللَّه سبحانه هذه الفِرْقَةَ الملْعُونَةَ؛ بأنهم كانوا لا يَتَنَاهَوْن عن منكرٍ فعلوه، أي: أنهم كانوا يتجاهَرُونَ بالمعاصِي، وإنْ نهى منهم ناهٍ، ولم يمتنعْ عن مواصلةِ العاصِي، ومؤاكلتِهِ، وخُلْطَتِهِ؛ ورَوَى ابن مسعود، قال: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الرَّجُلَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ، إذَا رأى أَخَاهُ على ذَنْبٍ، نَهَاهُ عَنْهُ؛ تَعْذِيراً، فَإذَا كَانَ مِنَ الغَدِ، لَم يَمْنَعْهُ مَا رأى مِنْهُ؛ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ أَوْ خَلِيطَهُ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ تعالى ذَلِكَ مِنْهُمْ، ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ على لِسَانِ نَبِيِّهِمْ دَاوُدَ وعيسى»، قال ابنُ مسعود: وكانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئاً فَجَلَسَ، وَقَالَ: «لاَ، وَاللَّهِ حتى تَأْخُذُوا على يَدِ الظَّالِمِ، فَتَأطُرُوهُ عَلَى الحَقِّ أَطْراً»، والإجماعُ على أن النهْيَ عن المنْكَرِ واجبٌ لمن أطاقه، ونهى بمعروفِ، أي: برفْقٍ، وقَوْلٍ معروفٍ، وأمْنِ الضرر عليه، وعلى المؤمنين، فإن تعذَّر على أحَدٍ النَّهْيُ؛ لشيءٍ من هذه الوجوه، ففَرْضٌ عليه الإنكارُ بقلبه، وألاَّ يخالِطَ ذا المُنْكَرِ، وقال حُذَّاق أهْل العِلْم: لَيْسَ مِنْ شروط الناهِي أنْ يكون سليماً من المَعْصية، بل ينهَى العُصَاةُ بعضُهم بعضاً.
وقوله سبحانه: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}: اللامُ لامُ قسَمٍ، وروى أبو داود عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ»، أو قَالَ: «كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ» انتهى.
وقوله تعالى لنبيِّه محمَّد عليه السلام: {ترى كَثِيراً} يحتمل أن تكون رؤيةَ عَيْن؛ فلا يريد إلاَّ معاصريه، ويحتمل أنْ تكونَ رُؤْيَة قَلْب؛ وعلى هذا، فيحتمل أن يريد المعاصِرَين له، ويحتمل أن يُرِيدَ أسلافَهُم، و{الذين كَفَرُواْ}: عبدة الأوْثَان.
وقوله سبحانه: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ...}، أي: قدَّمته للآخرة، واجترحته، ثم فسَّر ذلك قولُه تعالى: {أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ}؛ ف {أَن سَخِطَ}: في موضع رَفْعٍ بدَلٍ من {مَا}، ويتحمل أن يكون التقدير: هو أنْ سَخِطَ اللَّه عليهم.
وقوله تعالى: {والنَّبِيِّ} إنْ كان المرادُ الأَسْلاَفَ، فالنبيُّ: داودُ وعيسى، وإنْ كان المرادُ معاصِرِي نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، فالمراد ب النبي هو صلى الله عليه وسلم.
وذهب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ قوله سبحانه: {ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ} كلامٌ منقطعٌ من ذكر بني إسرائيل، وأنه يعني به المنافقين؛ ونحوه لمجاهد.

.تفسير الآيات (82- 86):

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}
وقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ...} الآية: اللامُ في قوله: {لَتَجِدَنَّ}: لام ابتداءٍ، وقال الزَّجَّاج: هي لامُ قَسَمٍ، وهذا خبر مُطْلَقٌ منسحبٌ على الزمان كلِّه، وهكذا هو الأمر حتَّى الآن، وذلك أن اليهودَ مَرَنُوا على تكذيبِ الأنبياء وقَتْلِهِمْ، ومَرَدُوا على استشعار اللعْنَةِ، وضَرْبِ الذِّلَّة والمَسْكنة، فهم قد لَجَّتْ عداوتهم، وكَثُر حَسَدهم، فهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين؛ وكذلك المشركون عبدةُ الأوثانِ والنِّيران، وأما النصارى، فإنهم يعظمون من أهْلِ الإسلام مَنِ استشعروا مِنه صِحَّة دِينٍ، ويستهينُونَ مَنْ فهموا منه الفِسْقَ، فهم إنْ حاربوا، فإنما حَرْبهم أَنَفَةٌ، لا أنَّ شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا، فَسِلْمُهم صافٍ، واليهودُ لعنهم اللَّه ليسوا على شيء من هذه الخِلالِ، بل شأنهم الخُبْث، واللَّيُّ بالألسنة، والمَكْر، والغَدْر، ولم يصفِ اللَّه تعالَى النصارى بأنهم أهْلُ وُدٍّ، وإنما وصفهم بأنهم أقرَبُ من اليهود والمشركين، وفي قوله سبحانه: {الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى}: إشارةٌ إلى معاصري نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم من النصارى؛ بأنهم ليسوا على حقيقيَّة النصرانيَّة، وإنما هو قولٌ منهم، وزَعْم.
وقوله تعالى: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً...} الآية: معناه: ذلك بأن منهم أهْلَ خشْيَةٍ وانقطاع إلى اللَّه تعالى، وعبادةٍ، وإنْ لم يكونوا على هُدًى، فهم يَميلُونَ إلى أهل العبادةِ والخَشْيَةِ، وليس عند اليهود ولا كان قَطُّ أهْلُ دياراتٍ وصوامِعَ وانقطاعٍ عن الدنيا، بل هم معظِّمون لها، متطاولُون في البنيان، وأمورِ الدنيا؛ حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة؛ فلذلك لا يرى فيهم زاهد، قال الفَخْر: القُسُّ والْقِسِّيسُ: اسمُ رئيس النصارى، والجمْعُ: قِسِّيسُونَ، وقال قُطْرُب: القُسُّ والقِسِّيس: العَالِمُ؛ بلغة الرُّوم، وهذا مما وقع الوِفَاقُ فيه بَيْن اللغتَيْنِ. انتهى.
ووصف اللَّه سبحانه النصارى، بأنهم لا يستكبرون، وهذا موجودٌ فيهم حتى الآن، واليهوديُّ متى وجد عِزًّا، طغى وتكبَّر، ثم مدحهم سبحانه، فقال: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع...} الآية: قال النوويُّ: ينبغي للقارئ أن يكون شأنُهُ الخشوعَ والتدبُّر والخضوعَ؛ فهذا هو المقصود المطلوبُ، وبه تنشرح الصدورُ، وتستنيرُ القُلُوب، ودلائلُه أكْثَرُ من أنْ تُحْصَر، وأشهرُ من أنْ تُذْكَر، وقد بات جماعةٌ من السَّلَف يتلو الواحدُ منهم آيةً واحدةً، ليلةً كاملةً، أو معظمَ ليلةٍ يتدَبَّرها، وصُعِقَ جماعاتٌ منهم عند سماع القرآن، وقراءتِهِ، وماتَ جماعاتٌ منهم، ويستحب البكاءُ والتباكِي لِمَنْ لا يقدر على البكاء؛ فإن البكاء عند القراءة صفةُ العارفين، وشعارُ عُبَّادِ اللَّه الصَّالحين، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء: 109] وقد وردَتْ آثار كثيرة في ذلك. انتهى من الحلية للنوويِّ.
وذكر ابن عباس وابن جُبَيْر ومجاهد؛ أنَّ هذه الآية نزلَتْ بسبب وَفْدٍ بعثهم النجاشيُّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لِيَرَوْهُ ويَعْرِفُوا حالَهُ، فقرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليهم القُرآن، فَبَكَوْا وآمَنُوا، ورَجعُوا إلى النجاشيِّ، فآمن، ولم يَزَلْ مؤمناً حتى ماتَ، فصلى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وروي أنَّ نَعْشَ النجاشيِّ كُشِفَ للنبيِّ عليه السلام؛ فكان يراه مِنْ موضعه بالمدينةِ؛ وجاء الخَبَرُ بعد مدة أنَّ النجاشيَّ دُفِنَ في اليومِ الذي صلى فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه، قال أبو صالح: كانوا سبعةً وستين رجلاً، وقال ابن جُبَيْرٍ: كانوا سبعين، عليهم ثيابُ الصُّوف، وكُلُّهم صاحبُ صَوْمَعَة؛ اختارهم النجاشيُّ.
وصَدْرُ الآية في قُرْب المودَّة عامٌّ فيهم، ولا يتوجَّه أنْ يكون صَدْر الآية خاصًّا فيمن آمن، وإنما وقع التخصيص مِنْ قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ}، وجاء الضمير عامًّا؛ إذ قد تُحْمَدُ الجماعةُ بفعْلِ واحدٍ منهم، وفي هذا استدعاء للنصارى، ولُطْفٌ من اللَّه بهم؛ ليؤمنوا.
قال * ص *: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق}: مِن الأولى لابتداءِ الغاية.
قال أبو البقاء: ومعناها: مِنْ أجْل الذي عَرَفُوا، ومن الثانية لبيانِ ما الموصولة. انتهى.
قال العراقيُّ: {تَفِيضُ}، أي: تسيل منها العَبْرَةُ، وفي الحديثِ: «اقرءوا القُرْآنَ، وابكوا، فَإنْ لَمْ تَبْكُوا، فَتَبَاكَوْا»، خرَّجه البزِّار. انتهى من الكوكب الدري، وفيه عن البزَّار أيضاً؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ جَنَاحِ ذُبَابٍ دُمُوعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ حتى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهِ» انتهى.
وقولهم: {مَعَ الشاهدين}، يعني: نبيِّنا محمَّداً صلى الله عليه وسلم، وأمته؛ قاله ابن عباس وغيره، وقال الطبريُّ: لو قال قائلٌ: معنى ذلك: مع الشاهِدينَ بتَوْحيدك من جميع العَالَمِ، لكان صواباً، وهو كلامٌ صحيحٌ؛ وكأن ابنَ عَبَّاس خصَّص أمة محمد؛ لقول اللَّه سبحانه: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطاً...} [البقرة: 143]، وقولهم: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق}: توقيفٌ لأنفسهم أو مُحَاجَّةٌ لِمَنْ عارضهم من الكفار، والقومُ الصالِحُون: محمَّد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه؛ قاله ابن زيد وغيره من المفسِّرين، ثم ذكر تعالى ما أثابهم به مِنَ النعيم على إيمانهم وإحسانهم، ثم ذكر سبحانه حَالَ الكَافرين المكذِّبين، وأنهم قرناء الجحيمِ.

.تفسير الآيات (87- 89):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ...} الآية: قال ابن عباس وغيره نزلَتْ بسبب جماعةٍ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم بلغَتْ منهم المواعظ، وخوفُ اللَّه تعالى إلى أنْ حرَّم بعضهم النساء، وبعضُهم النوْمَ بالليلِ، والطِّيبَ، وهَمَّ بعضهم بالاختصاءِ، فبلَغَ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «أَمَّا أنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وآتِي النِّسَاءَ، وَأَنَالُ الطِّيبَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي»، قال الطبريُّ: كان فيما يتلى: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِكَ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِكَ، وَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ»، والطيباتُ في هذه الآية: المستلَذَّات؛ بدليل إضافتها إلى ما أحلَّ اللَّه؛ وبقرينة ما ذُكِرَ من سبب الآية.
وقوله سبحانه: {وَلاَ تَعْتَدُواْ}، قال عكرمة وغيره: معناه: في تحريم ما أحلَّ اللَّه، وقال الحسنُ بنُ أبي الحَسَنِ: المعنى: ولا تعتدُوا، فَتُحِلُّوا ما حرَّم اللَّه، فالنهْيَان على هذا تضمَّنا الطرفَيْن؛ كأنه قال: لا تشدِّدوا؛ فتحرِّموا حلالاً، ولا تترخَّصوا؛ فتحلُّوا حراماً، قلتُ: وروى مالكٌ في الموطإ، عن أبي النَّضْر، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا ماتَ عثمانُ بْنُ مظعونٍ، ومُرَّ بجَنَازَتِهِ: «ذَهَبْتَ، وَلَمْ تَلْتَبِسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ». قال أبو عمر في التمهيد: هذا الحديثُ في الموطإ مقطوعٌ، وقد رُوِّينَاه متصلاً مُسْنَداً من وجه صالحٍ حسن، ثم أسند أبو عمر عن عائشةَ، قالَتْ: «لمَّا ماتَ عُثْمَانُ بنُ مظعونٍ، كشف النبيُّ صلى الله عليه وسلم الثَّوْبَ عن وجْهِهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وبكى بُكَاءً طويلاً، فلما رُفِعَ عَلَى السَّرِيرِ، قَالَ: طوبى لَكَ يَا عُثْمَان لَمْ تَلْبَسْكَ الدُّنْيَا وَلَمْ تَلْبَسْهَا». قال أبو عمر: كان عثمانُ بنُ مظعونٍ أحد الفُضَلاء العُبَّاد الزاهدين في الدنْيَا من أصْحَاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المتبتِّلين منهم، وقد كان هو وعليُّ بن أبي طالب هَمَّا أنْ يترهَّبا ويَتْرُكَا النساء، ويُقْبِلا على العبادة، ويحرِّما طيِّباتِ الطعامِ على أنفسهما، فنزلَتْ: {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ...} الآية. ونقل هذا مَعْمَرٌ وغيره عن قتادة. انتهى.
وقوله سبحانه: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان}: معناه: شدَّدتم، وعَقْدُ اليمينِ كَعَقْدِ الحبل والعهدِ؛ قال الحطيئة: [البسيط]
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْداً لِجَارِهِمُ ** شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا

قال الفَخْر: وأما وجه المناسبة بَيْنَ هذه الآية والَّتي قبلها، فهو ما تقدَّم مِنْ أنَّ قوماً من الصحابة رضي اللَّه عنهم حَرَّموا على أنفسهم المطاعِمَ والمَلاَذَّ، وحلفوا على ذلك، فلمَّا نهاهم اللَّه تعالى عن ذلك، قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فكيف نصنع بأَيْمَانِنَا؟ فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية. انتهى.
وقوله سبحانه: {فكفارته إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين}، أي: إشباعهم مرةً واحدةً، وحكم هؤلاءِ ألاَّ يتكرَّر واحدٌ منهم في كفَّارة يمينٍ واحدةً.
واختلفَ في معنى قوله سبحانه: {مِنْ أَوْسَطِ}، فرأى مالك وجماعةٌ معه هذا التوسُّط في القَدْر، ورأى ذلك جماعةٌ في الصِّنْف، والوَجْهُ أن يُعَمَّ بلفظ الوسَطِ القَدْرُ والصِّنْفُ، فرأى مالكٌ أنْ يُطْعَمَ المسكينُ ب المدينة مُدًّا بمُدِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك رِطْلٌ وثُلُثٌ، وهذا لضيقِ المعيشة بالمدينة، ورأى في غيرها أنْ يتوسَّع، ورأى من يقول: إنَّ التوسُّط إنما هو في الصِّنْف أنْ يكون الرجُلُ المكفِّر يتجنب أدنى ما يأكل الناس في البلد، وينحطُّ عن الأعلى، ويكفِّرُ بالوَسَط من ذلك، ومذهب المدونة؛ أنْ يراعي المكفِّر عيش البلد، وتأويلُ العلماء في الحانث في اليمين باللَّه: أنه مخيَّر في الإطعام، أو الكُسْوة، أو العِتْق، والعلماءُ على أنَّ العتق أفضلُ ذلك، ثم الكسوة، ثم الإطعام، وبدأ اللَّه تعالى عباده بالأيسر، فالأيسر، قال الفَخْر: وبدأ سبحانه بالإطعام؛ لأنه أعمُّ وجوداً، والمقصودُ منه التنبيهُ على أنه سبحانه يُرَاعِي التخفيفَ، والتسهيلَ في التكاليفِ، وثانيها: أنَّ الإطعام أفضلُ، قلتُ: وهذا هو مشهورُ مذهب مالكٍ. انتهى، ويجزئ عند مالكٍ من الكُسْوَة في الكفارة ما يجزئ في الصَّلاة.
وقوله سبحانه: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، أيْ: مؤمنة؛ قاله مالك وجماعةٌ؛ لأن هذا المطْلَق راجعٌ إلى المقيدِ في عِتْقِ الرقبة في قَتْل الخطإ.
وقوله سبحانه: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ}: معناه: لم يجدْ في ملكه أحد هذه الثلاث المذكورة. واختلفَ العلماءُ في حدِّ هذا العادِمِ، ومتى يصحُّ له الصيام؛ فقال الشافعيُّ ومالكٌ وجماعة من العلماء: إذا كان المكفِّر لا يملك إلاَّ قوته، وقُوتَ عياله، يَوْمَهُ وليلته، فله أنْ يصوم، فإن كان عنده زائدٌ على ذلك مَا يُطْعِم عشرةَ مساكينَ، لزمه الإطعام، قال الطبريُّ: وقال آخرون: جائز لِمَنْ لم يكُنْ له فضْلٌ على رأس ماله الذي يتصرَّف به في معايشه؛ أنْ يصوم، وقرأ أبيُّ بن كعبٍ، وابن مسعود: {ثلاثة أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ}، وقال بذلك جماعة.
وقال مالك وغيره: إن تابع، فحَسَنٌ، وإن فرق، أجزأ، وقوله: {إِذَا حَلَفْتُمْ}، معناه: وأردتم الحِنْثَ، أو وَقَعْتُمْ فيه.

.تفسير الآيات (90- 92):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ...} الآية:
قال * ع *: وفي معنى الأزلام: الزَّجْرُ بالطيرِ، وأخْذُ الفألِ في الكتب ونحوه ممَّا يصنعه الناسُ، وأخبر سبحانه أنَّ هذه الأشياء رجْسٌ، قال ابن عباس في هذه الآية: رِجْسٌ: سَخَطَ، وقال ابن زَيْدٍ: الرجْسُ الشرُّ.
قال * ع *: الرِّجْس: كلُّ مكروهٍ ذميمٍ، وقد يقال للعذابِ والرجْزِ: العذابُ لا غَيْر، والرِّكْس: العَذِرَةُ لا غَيْر، والرِّجْسُ يقال للأمرين.
وقوله سبحانه: {فاجتنبوه}: أمر باجتنابه، فحرمت الخمر؛ بظاهر القرآن، ونصِّ الأحاديث، وإجماع الأمة، وأمْرُ الخمر إنما كان بتدريجٍ ونوازلَ كثيرةٍ؛ كقصَّة حمزة، حين جَبَّ الأسْنِمَة، وقولِهِ: وهل أنتم إلا عبيدُ أبِي، ثم أعلم سبحانه عباده أنَّ الشيطان إنَّمَا يريد أنْ تقع العداوةُ بسَبَبِ الخَمْر، وما يعتري عليها بَيْنَ المؤمنينِ، وبسبب المَيْسر؛ إذ كانوا يتقَامَرُونَ عَلَى الأموال؛ حتى رُبَّما بَقِيَ المقمور فقيراً، فَتَحْدُثُ من ذلك ضغائِنُ وعداواتٌ، فإن لم يصلِ الأمر إلى حَدِّ العداوة، كانَتْ بغضاء، ولا تحسُنُ عاقبة قومٍ متباغضين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَاناً»، وباجتماع النفوس والكلمة يحمى الدين، ويجاهَدُ العدوُّ، والبغضاءُ تنقضُ عُرَى الدِّين، وتهدم عمادَ الحمايةِ، وكذلك أيضاً يريدُ الشيطانُ أنْ يصدَّ المؤمنين عَنْ ذكْر اللَّه، وعنِ الصلاة، ويشغلهم عنها باتباع الشهواتِ، والخمرُ والميسرُ والقمَارُ كلُّه مِنْ أعظم الآفات في ذلك، وفي قوله سبحانه: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}: وعيدٌ زائدٌ على معنى: انتهوا.